فصل: المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْله تعالى: {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} كل شيء- إذن- محسوب، فحتى هؤلاء الذين أنفقوا، فالله سبحانه يعلم ماذا أنفقوا وسيجازيهم عليه، وهؤلاء الذين ساروا الطريق الطويل وقطعوا الوديان ليلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، فالله سبحانه يكتب لهم الخير. وبعد ذلك تدفق المسلمون على تنفيذ أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كادت المدينة تفرغ من المسلمين؛ ليلحقوا بالسرايا التي يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنشر الدعوة. اهـ.

.قال ابن العربي في الآيتين:

{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

.المسألة الْأُولَى: قَوْله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ}:

أَيْ مَا كَانَ لِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ أَنْ يَتَخَلَّفُوا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ لَمْ يُسْتَنْفَرُوا، وَإِنَّمَا كَانَ النَّفِيرُ مِنْهُمْ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِنْفَارُ فِي كُلِّ مُسْلِمٍ، وَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالْعِتَابِ لِقُرْبِهِمْ وَجِوَارِهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ.

.المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْله تعالى: {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ}:

دَلِيلٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُسْتَحَقُّ بِالْإِدْرَابِ وَالْكَوْنِ فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ؛ فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ سَهْمُهُ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ الْقَاسِمِ: لَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا كَتَبَ لَهُ بِالْآخِرَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ السَّهْمَ.
وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.

.المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْله تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ}:

يَعْنِي كُتِبَ لَهُمْ ثَوَابُهُ.
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمُجَاهِدِ: إنَّ أَرْوَاثَ دَوَابِّهِ وَأَبْوَالَهَا حَسَنَاتٌ، وَرَعْيَهَا حَسَنَاتٌ، وَقَدْ زَادَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَضْلِهِ.
فَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ بِعَيْنِهَا: «إنَّ بِالْمَدِينَةِ قَوْمًا مَا سَلَكْتُمْ وَادِيًا، وَلَا قَطَعْتُمْ شِعْبًا إلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ، حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ»؛ فَأَعْطَى لِلْمَعْذُورِ مِنْ الْأَجْرِ مَا أَعْطَى لِلْقَوِيِّ الْعَامِلِ بِفَضْلِهِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّمَا يَكُونُ لَهُ الْأَجْرُ غَيْرَ مُضَاعَفٍ، وَيُضَاعَفُ لِلْعَامِلِ الْمُبَاشِرِ.
وَهَذَا تَحَكُّمٌ عَلَى اللَّهِ، وَتَضْيِيقٌ لِسَعَةِ رَحْمَتِهِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ.
وَلِذَلِكَ قَدْ رَابَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ، فَقَالَ أَنْتُمْ تُعْطَوْنَ الثَّوَابَ مُضَاعَفًا قَطْعًا، وَنَحْنُ لَا نَقْطَعُ بِالتَّضْعِيفِ فِي مَوْضِعٍ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مِقْدَارِ النِّيَّاتِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُغَيَّبٌ، وَاَلَّذِي يَقْطَعُ بِهِ أَنَّ هُنَالِكَ تَضْعِيفًا، وَرَبُّك أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ، وَهَذَا كُلُّهُ وَصْفُ الْعَامِلِينَ الْمُجَاهِدِينَ، وَحَالُ الْقَاعِدِينَ التَّائِبِينَ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُتَخَلِّفِينَ الْمُعْتَذِرِينَ بِالْبَاطِلِ قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: ذَكَرُوا فِي بِشْرٍ مَا ذُكِرَ بِهِ أَحَدٌ، فَقَالَ: {يَعْتَذِرُونَ إلَيْكُمْ إذَا رَجَعْتُمْ}. اهـ.

.قال القرطبي في الآيتين:

{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ}
فيه ست مسائل:
الأُولى قوله تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله} ظاهره خبر ومعناه أمر؛ كقوله: {وَمَا كان لكم أن تؤذوا رسول الله} [الأحزاب: 53] وقد تقدّم.
{أَنْ يَتَخَلَّفُوا} في موضع رفع اسم كان.
وهذه معاتبة للمؤمنين من أهل يَثْرِب وقبائِل العرب المجاوِرة لها؛ كمُزَيْنَة وجُهينة وأَشْجَع وغِفَار وأسْلم على التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تَبُوك.
والمعنى: ما كان لهؤلاء المذكورين أن يتخلفوا؛ فإن النفير كان فيهم، بخلاف غيرهم فإنهم لم يُستنفَروا؛ في قول بعضهم.
ويحتمل أن يكون الاستنفار في كل مسلم، وخصّ هؤلاء بالعتاب لقربهم وجوارهم، وأنهم أحقُّ بذلك من غيرهم.
الثانية قوله تعالى: {وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} أي لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدَّعة ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في المشقة.
يقال: رغِبت عن كذا أي ترفَّعت عنه.
الثالثة قوله تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} أي عطش.
وقرأ عبيد بن عمير {ظماء} بالمد.
وهما لغتان مثل خطأ وخطاء.
{وَلاَ نَصَبٌ} عطف، أي تعب، ولا زائدة للتوكيد.
وكذا {وَلاَ مَخْمَصَةٌ} أي مجاعة.
وأصله ضمور البطن؛ ومنه رجل خميص وامرأة خُمَصانة.
وقد تقدّم.
{فِي سَبِيلِ الله} أي في طاعته.
{وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا} أي أرضًا.
{يَغِيظُ الكفار} أي بوطئهم إياها، وهو في موضع نصب لأنه نعت للمَوْطئ، أي غائظًا.
{وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا} أي قتلًا وهزيمة.
وأصله من نِلْت الشيء أنال أي أصبت.
قال الكسائي: هو من قولهم أمرٌ مَنيل منه؛ وليس هو من التناول، إنما التناول من نُلْته العطية.
قال غيره: نُلت أنول من العطية، من الواو والنيلُ من الياء، تقول: نِلته فأنا نائل، أي أدركته.
{وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا} العرب تقول: وادٍ وأودية، على غير قياس.
قال النحاس: ولا يُعرف فيما علمت فاعل وأفعِلة سواه، والقياس أن يجمع ووادِي؛ فاستثقلوا الجمع بين واوين وهم قد يستثقلون واحدة، حتى قالوا: أُقِّتَتْ في وُقِّتَت.
وحكى الخليل وسيبويه في تصغير واصل اسم رجل أو يصل فلا يقولون غيره.
وحكى الفرّاء في جمع واد أوداء.
قلت: وقد جمع أوداه؛ قال جرير:
عرفت ببُرْقَة الأوداهِ رَسْمًا ** مُحيلًا طال عَهْدُك مِنَ رُسومِ

{إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} قال ابن عباس: بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعون ألف حسنة.
وفي الصحيح: «الخيل ثلاثة وفيه وأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مَرْج أو روضة فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة إلا كُتب له عدد ما أكلت حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات...» الحديث.
هذا وهي في مواضعها فكيف إذا أدْرب بها.
الرابعة استدلّ بعض العلماء بهذه الآية على أن الغنيمة تستحق بالإدراب والكون في بلاد العدوّ، فإن مات بعد ذلك فله سهمه، وهو قول أشهب وعبد الملك، وأحد قولي الشافعي.
وقال مالك وابن القاسم: لا شيء له؛ لأن الله عز وجل إنما ذكر في هذه الآية الأجر ولم يذكر السهم.
قلت الأول أصح لأن الله تعالى جعل وطء ديار الكفار بمثابة النَّيل من أموالهم وإخراجهم من ديارهم، وهو الذي يغيظهم ويدخل الذلّ عليهم، فهو بمنزلة نَيْل الغنيمة والقتل والأسر؛ وإذا كان كذلك فالغنمية تُستحق بالإدراب لا بالحيازة، ولذلك قال عليّ رضي الله عنه: ما وُطئ قوم في عُقر دارهم إلا ذَلّوا.
والله أعلم.
الخامسة هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} وأن حكمها كان حين كان المسلمون في قلّة، فلما كثروا نُسخت وأباح الله التخلف لمن شاء، قاله ابن زيد.
وقال مجاهد: بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم قومًا إلى البوادي ليعلموا الناس فلما نزلت هذه الآية خافوا ورجعوا؛ فأنزل الله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً}.
وقال قتادة: كان هذا خاصًّا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر؛ فأما غيره من الأئمة والولاة فلمن شاء أن يتخلف خَلْفَه من المسلمين إذا لم يكن بالناس حاجة إليه ولا ضرورة.
وقول ثالث أنها محكمة؛ قال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعيّ وابن المبارك والفَزَاريّ والسَّبِيعي وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية إنها لأوّل هذه الأمة وآخرها.
قلت قول قتادة حسن، بدليل غزاة تبوك، والله أعلم.
السادسة روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد تركتم بالمدينة أقوامًا ما سِرْتم مسيرًا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم فيه» قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: «حبسهم العذر».
خرجّه مسلم من حديث جابر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال: «إن بالمدينة لرجالًا ما سِرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم حبسهم المرض» فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم للمعذور من الأجر مثلَ ما أعطى للقوي العامل.
وقد قال بعض الناس: إنما يكون الأجر للمعذور غير مضاعف، ويضعف للعامل المباشر.
قال ابن العربيّ: وهذا تحكم على الله تعالى وتضييق لسعَة رحمته، وقد عاب بعض الناس فقال: إنهم يُعطون الثواب مضاعفًا قطعًا، ونحن لا نقطع بالتضعيف في موضع فإنه مبنيّ على مقدار النيات، وهذا أمر مُغَيّب، والذي يُقطع به أن هناك تضعيفًا وربّك أعلم بمن يستحقه.
قلت: الظاهر من الأحاديث والآي المساواةُ في الأجر؛ منها قوله عليه السلام: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» وقوله: «من توضأ وخرج إلى الصلاة فوجد الناس قد صلّوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها» وهو ظاهر قوله تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله}.
وبدليل أن النية الصادقة هي أصل الأعمال، فإذا صحت في فعل طاعة فعجز عنها صاحبها لمانع منع منها فلا بُعْد في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر الفاعل ويزيد عليه؛ لقوله عليه السلام: «نية المؤمن خير من عمله» والله أعلم. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيتين:

{ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله} نزلت فيمن تخلف من أهل المدينة عن غزوة تبوك، وفيمن تخلف ممن حولهم من الأعراب من مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار.
ومناسبتها لما قبلها: أنه لما أمر المؤمنين بتقوى الله، وأمر بكينونتهم مع الصادقين، وأفضل الصادقين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم المهاجرون والأنصار، اقتضى ذلك موافقة الرسول وصحبته أنّى توجه من الغزوات والمشاهد، فعوتب العتاب الشديد من تخلف عن الرسول في غزوة، واقتضى ذلك الأمر لصحبته وبذل النفوس دونه.
قال الزمخشري: بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأمروا أن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط، وأن يلقوا أنفسهم في الشدائد ما يلقاه نفسه صلى الله عليه وسلم، علمًا بأنها أعزُّ نفس عند الله تعالى وأكرمها عليه، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهون وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها، ولا يقيموا لها وزنًا، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه، فضلًا أن يربأوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهي بليغ مع تقبيح لأمرهم وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية.